فلسطين أون لاين

"زهراء" ناجيةٌ أذبلها الفقد 

عائلة "شاهين" ..  لقمةُ عشاء مغمّسة بدماء الشهداء

...
غزة/ يحيى اليعقوبي

التاسعة والنصف مساءً، كان الأبُ يحتضن طفلته "مسك" وبقربه تجلس الرضيعة ماسة (شهران) في حضن أمها يوم 10 أكتوبر/ تشرين أول 2023، لم تكمل العائلة طعام عشائها قبل نوم الأطفال، في المكان تبعث آيات من سورة البقرة الطمأنينة في قلوبهم، لتجد الأم زهراء الرنتيسي شيئًا يشدها نحو الأسفل، ترتطم بها أعمدة المنزل التي تهاوت بها وسقط فوقها الطابق العلوي لتعلق بين جدارين ومسافة صغيرة منحتها الحياة.

"حاولتُ التحرك فلم أستطع، فعرفت أن الاحتلال قام باستهدافنا، كانت طفلتي الرضيعة ماسة تئن وتبكي، لم أستطع سوى الصراخ والمناداة على الجيران لمساعدتنا، وكلما كنت أنادي كان يملأ فمي كمية رمل كبيرة فتخنقني، فجأة اختفى صوت ماسة، قلقت كثيرًا، وعرفت لاحقًا أنها خرجت مع طواقم الإنقاذ" مرت عشرة أشهر ولا زالت تلك الأهوال تطبق على ذاكرة الأم، وهي تعيش رحلة علاج لم تنتهِ ولم يضمد جرحها المفتوح.

لبضع دقائق ظلّت تقاوم الركام وتحاول إزالته، حتى استطاعت تحريك يديها، في الوقت وجدت الطواقم قد وصلتها وبدأت بسحبها وإزالة الركام عن أقدامها، كانت معلقة بين حائط كبير وأخشاب الأثاث، "بدأت الطواقم بنشر الأخشاب بواسطة منشار لإخراجي قبل سقوط الحائط علي. تفرقنا ومن يومها لم أرِ زوجي ولا أهله الذين تواجدوا بالطابق الذي يعلونا، وتناثرت أشلاؤهم على بيوت الجيران" تروي قصتها لموقع "فلسطين أون لاين".

ملابس محترقة وأشلاء

نقلت الأم لمستشفى الشفاء بمدينة غزة، وطفلتاها لمستشفى العودة والأندونيسي شمال قطاع غزة، تنتشل بقية التفاصيل الراقدة في حطام ذاكرتها "عندما أخرجوا ابنتي مسك، صرخت: "بدي ماما" وكانت تلك الصرخة، علامة أرشدت الطواقم لمكاني تحت الردم، كنت أرتدي رداء الصلاة ومن شدة القصف احترقت ولم يبق من الملابس إلا قطعة صغيرة بحجم كفة اليد، استشهد زوجي وثمانية من أهله (عائلة الرنتيسي)، فقدت طفلتاي بعد والدهم الجد والجدة والأعمام والعمات ولم يبقَ أحد من رائحة والدهم".

مرت عشرة أشهر على تلك المجزرة، تحاول زهراء التعافي من الكسور والجروح بإحدى مستشفيات مصر، ترافقها طفلتاها اللتان تماثلتا للشفاء.
تخطت الرضيعة ماسة عامها الأول بلا والدها وعائلته التي رحلت بالكامل، تجهل الطفلة ما حدث معها، بينما لا تكف شقيقتها الأكبر مسك طرح أسئلتها ببراءة "وين بابا؟" لم تتأقلم الطفلة على ظروف حياة غاب فيها والدها بعدما كانت تلازم حضنه، تطلب الذهاب "للجنة" التي أخبرتها أمه أن والدها رحل هناك.

في وقت تحاول أمها تناسي الألم، تفتح طفلتها جرها المثقوب من جديد، وهي تنادي على والدها من شرفة غرفة المشفى، أو هي تجلس على مائدة الطعام عندما تطلب منه الحضور ليأكل معها، أو عندما ترتدي ملابس جديدة تعتقد أنه سيأتي.

عائلة أبيدت

عاشت حياة سعيدة في كنف عائلة اعتبرتها الابنة الخامسة في العائلة، منحتها "الحب والدفء العائلي"، يبكي صوتها وهي تستعيد بعضًا من تلك الذكريات الجميلة "كان عمي يعتبرني ابنته، يتفقدني دائما بأطيب الطعام ويدعونا على مائدة الغداء يوم الجمعة، أذكر ابتسامته عندما يحضر لي شيئًا ويقول: "هذه حصتك"، أو يحضر لي الحلوى (جاتوه) في يوم ميلادي".

تحتفظ ذاكرتها المثقلة بالفقد بآخر لقاء مع عمها (والد زوجها): "قال لي محاولاً تهدئتي: "ما تخافي ربنا معك" أما والدة زوجتي فكانت دائما تحب اصطحابي في زياراتها العائلية، ملأت حياتنا حبًا وكرمًا، وكلما أردت مساعدتها ترفض وتطلب مني الاهتمام بطفلتي، حتى أنها تأخذ طفلتي وقت انشغالي".

لم يكن زوجها الشهيد "مصطفى" إلا غرسًا طيبًا نبت في عائلةٍ مترابطة، "عندما كان يعود من العمل يحضر معه الطعام، وإذا شعر أني متعبة لا يطلب مني إعداد الطعام، رحل وترك وراءه طفلتين أصبحت ماسة بعمر العام ومسك ثلاث سنوات. قبل رحيله بساعات لم يترك طفلته الرضيعة ماسة، فكنت أقول له باستغراب: مالك، سيبها. طول اليوم حاملها، فرد علي: "أنا بتودع منها".

استشهد في المجزرة سلفها الأكبر يوسف، وعرفته حنونًا على طفلتيها، كان يحب إصلاح الأجهزة المتعطلة، وشقيقته المهندسة هديل والتي تخرجت بتقدير امتياز من الجامعة وأنشأت متجر "جوري"، ودائمًا تشتري ألعابا لماسة ومسك، تصفها بأنها "صاحبة القلب الأبيض".

استشهد كذلك شقيق زوجها محمد والذي تصفه بأنه "فارس صلاة الفجر" لم تره تأخر عليها يومًا ما، تذكر أنه عندما ذهبت عليه صلاة الفجر في أحد الأيام لم يكلم العائلة ثلاثة أيام من شدة حزنه وقهره، متفوق بدراسته والأول على دفعته بكلية الاقتصاد بالجامعة الإسلامية.

أما أصغر أشقاء زوجها إسماعيل فكانت العائلة تجهز لخطوبته، بعد أن جهز شقته وأحضر غرفة النوم وكان بانتظار قراءة الفاتحة على عروسه، فجاءت الحرب وخطفت العائلة وأحلامها، حتى أن عروسته التي كان يريد خطبتها استشهدت هي وعائلتها، "كان دائمًا يحب الجلوس مع زوجي صباح كل يوم وعندما يعودون مساءً" تقلب في دفتر الذكريات.

كان يفترض أن تعيش العائلة فرحة أخرى، فابنتهم لمى (شقيقة زوجها الصغرى) كان يفترض أن تبدأ دراسة الثانوية العامة (التوجيهي) واستعدت للمنافسة على المراكز الأولى بعدما حصلت على شهادة مستويات باللغة الإنجليزية، وكان حلمها أن تصبح طبيبة.

عانت زهراء من كسور وحروق من الدرجة الرابعة، تعيش على المسكنات لتسكين آلامها المتواصلة، وليتها "تستطيع إسكات ألم القلب والذاكرة" يعتصر صوتها، تحافظ على دورها كأم في رعاية طفلتيها وتعويضهم عن حنان والدهم المفقود.

يغلف الحزن صوتها "من يوم القصف أسأل نفسي: "ليش أنا الوحيدة نجوت مع طفلتي؟"، أنام وأحلم أن أستيقظ على بيتي لكني أستيقظ وأجد أمامي سرير المشفى هذه الصورة المتكررة التي تلازمني من بداية الحرب، أتمنى أن أستطيع المشي مرة أخرى. حياتنا دمرت، أبحث عن الشخص الذي كان صباحي ومسائي معه فلا أجده إلا في صورة وهذا الشيء حرمت منه لأن هواتفنا احترقت مع القصف".

"الله يسهل عليهم، هم عائلتي الثانية وأحن الناس على قلبي. الاحتلال حرم طفلتي من عائلة والدهم" تفتقد زهراء تفاصيل حياتها اليومية مع عائلة مترابطة عاشت في كنفها بضع سنوات، شاهدت خلالها "الحرب والاحترام والأخلاق والحنان".